سائق التاكسي الذي أوصلني إلى منزل الحسني أصر على إعطائي رقمه، عارضا خدماته المجانية ما دمت أخدم الجنوب (كما يقول)، وتذكرت، عندما كنت مناوبا في قسم العناية الفائقة بالمستشفى، ذلك الشاب المصاب من أبناء ردفان.. سألته كيف أتيت من ردفان قال بعت (النعجة) وجيت لعدن أحضر فعاليات الحراك لأجل الجنوب. كما لا أنسى الرجل العجوز في إحدى قرى لودر الذي لا يفوت فعالية إلا ويحضرها أينما كانت، كل ذلك إيمانا بالقضية، ما يجعل الجنوب ملفا لأعدل قضية بيد محام فاشل ضليع في الإسهاب في الكلام.
عقد من النضال لآلاف من الشهداء وعشرات الآلاف من الأسر المكلومة والقيادات تتبارى في إطلاق التصريحات من عواصم عدة ومن أتى منهم دخل في منافسة على الخطابة في المهرجانات العكاظية، لم نر رؤية استراتيجية لإخراج الجنوب من نفق النضال واللا نضال، وهنا نلتقي بأحمد عبدالله الحسني، وهو القيادي الأحدث وصولا إلى البلد من الخارج، نعرفه عارفا بالأمر.. لهذا أتيناه لنسأله أسئلة غير تقليدية، أسئلة تضع أساسا فكريا لما نحن فيه، وما سنكون عليه.. فكانت الردود كما ستقرؤون.
- في البدء نشكر لكم استقبالنا بمنزلكم والتفضل بالإجابة عن الأسئلة لتوضيح بعض الأمور للناس عبر صحيفة (عدن الغد).
= أهلا وسهلا بك وبصحيفة (عدن الغد) التي أصبحت واسعة الانتشار، ويعتمد عليها الناس في البحث عن الخبر الحقيقي.
- هناك واحدية للثورة، في كلا الشطرين، هناك مناضلون جنوبيون قتلوا للدفاع عن سبتمبر وهناك مناضلون شماليون قتلوا للدفاع عن اكتوبر.. بموقفكم الجديد عن الهوية الجنوبية وعن فك ارتباط، أنتم تسفهون أحلام الأجداد الذين قتلوا للدفاع عن الثورتين، وكانوا مؤمنين بيمن واحد، حسب قول مهتمين بالتاريخ؟
= مفهوم واحدية الثورة هو نتاج فكر تيار عروبي قومي في بداية القرن العشرين، لم يكن حقيقة تاريخية بقدر ما كان ترجمة لأحلام كثير من المفكرين العرب القوميين، ولم يكن واقعيا، ونحن إذا جئنا إلى الحقيقة نجد أن الجنوب العربي قد تعرض لمنظومة واسعة من تغييرات قسرية شملت الهوية والتاريخ ونسجت لواقعه أطرا بعيدة جدا عن الحقائق وأخذت أجياله إلى مستقبل مظلم قاتم مزيف، وإلى الكثير من التضليل الذي كرس مفهوما خاطئا بعيدا عن الحقيقة، يلغي تاريخيا إسهامات شعبنا منذ الأزل، ويلغي ما أكد عليه كتاب الله الكريم وما ورد من حقائق تاريخية منذ الثورة على مدى الستين عاما، وما سطره المؤرخون من إسهامات للجنوب في الحضارة الإنسانية، والتاريخ أثبت أن اليمن لم يشهد في يوم من الأيام وحدة سليمة، وهذا المفهوم أخذ بعدا أكثر خطرا عندما تولى الجيش مركز القرار في مؤسسات الدولة والمؤسسات الحزبية في أربعينيات القرن الماضي، لهذا نعتبر الثورة السلمية التي يخوض غمارها شعبنا وفي طليعته الشباب أول انطلاقة حقيقية يملك أبناء الجنوب فيها قرارهم المستقل.. الصراع الآن صراع هوية، والممارسات التي يجريها أبناؤنا في ساحات الثورة لتحقيق حقهم في الحرية والاستقلال كفيلة بإسقاط مفهوم واحدية الثورة والمفاهيم الخيالية التي لا تسندها حقائق الواقع ولا التاريخ.
- أين كنت عام 1994م في زمن الحرب التي شنت على الجنوب؟
= كنت أقاتل في صفوف قوات الشرعية، ولذلك الموقف أسبابه، وهي تتعلق بالأخطاء الكبيرة التي ارتكبها أبناء الجنوب بحق أنفسهم، سواء كانوا من هذا الطرف أو ذاك، ونحمد الله تعالى أننا استطعنا مع الخيرين من أبناء الجنوب تحقيق قراءة واقعية لطبيعة الأوضاع السابقة في بلادنا وتضافرت جهود الخيرين، وإكمال ما قمنا به، وهو التصالح والتسامح ثم العمل بكل جهد وإيجاد الإطار الجامع للجنوب وهوية الجنوب والعمل على استقلال القرار الجنوبي واعتماد مبدأ الشفافية الكاملة في كل ما يمت للشأن العام والتمسك بالهوية الجنوبية واستقلال القرار، وهي التي ستؤمن لنا النجاح والانتصار في مسيرتنا التحررية، وعلينا إصلاح الأخطاء الكبرى بحق الوطن.
- عندما أعلن البيض العودة كيف استقبلتم ذلك؟
= كنت أنا في بريطانيا أحمل مسؤولية الأمين العام لـ(تاج) ومباشرة وقعت مع حسن أحمد باعوم على بيان أن خروجه ووقوفه إلى جانب شعبه والتزامه بخيار الشعب يتناسق تماما مع مواقفه المبدئية، ومنذ ذلك الحين أقمنا أفضل العلاقات مع الرئيس البيض.
- في السابق راهنتم على الاتحاد السوفيتي، فخسرتم، والآن يقال إنكم تراهنون على الدور الإيراني الذي يجهز الغرب لضربه، ووجودكم في بيروت دليل على ذلك.. ألم تتعلموا من عدم جدوى الرهان على الحصان الخاسر؟
= اليمن الديمقراطية كانت جزءا من صراع القوى أيام الحرب الباردة، وبغض النظر عن خسارة الاتحاد السوفيتي مع الرأسمالية، لكن يمكن تسجيل حقيقة ساطعة وهي أن الجنوب وحكومته في تلك الفترة لم تكن تملك قرارها المستقل على الإطلاق، كانت مسيرة بالكامل من الخارج من موسكو بالتحديد، لذا لا أعتقد أن أيا من قادة الجنوب اكتوى بنار التبعية وعرف معنى أن تكون ذليلا مسخرا للأجنبي يعود لتكرارها مرة أخرى، مع هذا علينا أن نقول إن أبناء الجنوب وقياداته السياسية كطليعة للثورة الشعبية السلمية التحررية قد يدركون تعقيدات الوضع الراهن ويعملون على الحفاظ على استقلالية رأيهم في حقهم في التحرر والاستقلال واستعادة دولتهم الحرة المستقلة، وبعدها سيسعى الجنوبيون إلى إيجاد أفضل العلاقات مع كل القوى الدولية التي يمكن أن تناصر قضيتنا ولقد سعينا أكثر من مرة، ويمكن الإشارة بهذا الصدد إلى ترديدنا في أكثر من مقام ومقال ودعوتنا لأشقائنا العرب بإعادة قراءة المشهد السياسي الراهن، كما هو في الواقع الملموس، وقلنا هذا في مهرجانات وفعاليات ثورية في يافع وطور الباحة وقد طلبنا من السفراء والبعثات العربية الاستماع إلى ما يريده شعبنا في الجنوب وعدم السماع فقط لما يقولونه في مركز القرار بصنعاء.
أما في ما يخص لبنان، فلبنان عرف كمنارة للعلم والثقافة وحرية الإعلام منذ أواسط القرن الماضي، وهو مكان مناسب للنشاط بحرية وهو الشيء الذي لا يتوفر في أي عاصمة عربية أخرى غير بيروت.. سياسيا لسنا مع أحد وننظر إلى إيران باعتبارها دولة شقيقة وقوة إقليمية فاعلة لا يمكن تجاهل مصالحها، وبقراءة جيدة للجغرافيا السياسية يمكن استيعاب تداخل المصالح بين إيران والجنوب العربي.
- وأنتم بلندن وميونخ لم تنجحوا في إقناع أحد من المجتمع الدولي بالتعاطي مع القضية الجنوبية طيلة ما يقارب العقد من الزمن، ذلك يعد فشلا دبلوماسيا سعادة السفير؟
= الحكم بفشل دبلوماسي هو سطحية مبالغ فيها، فالحكم يكون عند حصاد نشاط ملموس في الداخل والخارج، نحن نعرف أن هناك مصالح كبرى لدول أوربا والخليج كما لنا نحن مصالح في أرضنا.
- يدور في الشارع الكثير من اللغط حول عودة عدد من القيادات الجنوبية بينها أنت ومحمد علي أحمد، فالأخير يتهم بأنه عاد بتنسيق مع هادي، ولإحباط الدور الذي يقوم به محمد علي عدت أنت بتنسيق من علي عبدالله صالح؟
- أولا عودة الأخ محمد علي أحمد جاءت برغبته الخاصة ولأهداف هو أعرف بها، ولم يخف ذلك منذ أن وطئت أقدامه العاصمة عدن، أما عودتي فقد جاءت لقراءة مشتركة مع السيد علي سالم البيض، وبعد وصولنا إلى قناعة أن ثورة الحراك السلمي قد وصلت ذروتها وحققت نجاحات، فكان لابد من العودة والعمل معا مع قوى التحرير والاستقلال والعمل لتوحيد هذه القوى وسياساتها في إطار يمكن الانتقال منه إلى المرحلة الثانية وتوفير الظروف المطلوبة للتصدي للمشاريع التي تنتقص من حق الجنوب والاستمرار إلى أن يأتي النصر والانعتاق من الاحتلال اليمني، فعودتي كانت بقرار مستقل ليس له أي ارتباط بأي رمز في صنعاء، والادعاء بأننا جئنا بطلب من علي عبدالله أمر يدعو للسخرية ولا يستحق التعليق.
- عند وصولك للمطار اعتقلت.. من اعتقلك ولماذا، هل لك أن تعطينا بعض التفاصيل؟
= أولا أنا لم أعتقل، أنا اختطفت، ومن اختطفوني لا يحملون رموز الدولة مثل مذكرة أو ملابس رسمية، لذلك فهم عصابة يغطون وجوههم كاملة، وهم يتبعون النظام الحاكم بصنعاء وتيار القبيلة المتخلف فيه، وهذا يثبت كذبهم بأنهم قادرون على إقامة الدولة المدنية.
- بالداخل هناك تغييرات حيث إن حزب الإصلاح الآن هو الحاكم الفعلي لأغلب مناطق البلاد بما فيها عدن، وهو يبدي رأفة بالجنوبيين، فأعلام الجنوب تملأ عدن في عهده، وكانت محرمة زمن صالح؟
= لا أعلم من أين أتيت بهذا الحكم أن الإصلاح أكثر رأفة بالجنوبيين! حزب الإصلاح اليمني فصيل من الإخوان المسلمين، يحمل فكرا ظلاميا وهابيا تكفيريا لا يعترف بالاختلاف، ويستخدم العنف بكل الطرق، خصوصا مع الجنوبيين، وهذا ما عبر عنه اليدومي أمام الكل في مقابلته التلفزيونية الأخيرة. حزب الإصلاح يحضر نفسه لتسلم السلطة تبعا لوعد أعطته له أمريكا كبقية فصائل الإخوان المسلمين في مصر وتونس وليبيا، وتحرص قياداته على الخروج من المرحلة الانتقالية بأقل الخسائر استعدادا لتسلم السلطة عام 2014م، وربما غابت عنك حقيقة أن حزب الإصلاح يحشد أنصاره في الجنوب لليوم الموعود، وهو يفعل ذلك بشكل خاص في عدن والمكلا، فإلى عدن يأتي بأنصاره من تعز وإب وإلى المكلا يأتي بهم من مأرب والجوف.
- الحراك عبارة عن تيارين (الفيدرالية وفك الارتباط) ولقادة الخيار الفيدرالي خطة عمل تتمثل بنموذج جنوب السودان، سنوات معينة من الفيدرالية يتبعها استفتاء وانفصال شرعي معتمد دوليا.. أنتم ماذا لديكم؟
= أولا من الظلم مقارنة الحالة السودانية بالجنوب العربي، فجنوب السودان عبر التاريخ لم يكن دولة مستقلة، وهذه المقارنة كلنا نعرف أنها تستخدم للترويج للفيدرالية، كما نعرف أن أحدا لا يرضى بالفيدرالية من المتصارعين في صنعاء، ونعرف ما أعلن من قبل الزنداني والديلمي في هذا الصدد، ومع احترامي لإخواننا المؤمنين بالفيدرالية نقول إن نموذج الفيدرالية الذي سوقه وفد علي ناصر محمد وحيدر العطاس ومحمد علي أحمد ومحمد سالم باسندوة في رمضان 2010م وما قدمه الأخ باسندوة لدول الخليج للحصول على تأييد مشروع فيدرالية الخمسة أقاليم أبين جزء من البيضاء وشبوة مع مأرب والجوف ولحج مع تعز وعدن إقليم مستقل، وبالإشارة إلى مذكرة باسندوة للخليج فقد جاءت بالتفصيل عن مشروع الفيدرالية، وكتبت أنا عنه موضوعا وهو باختصار شديد الجيش مركزي والداخلية مركزية والمالية مركزية، ولم يعطوا الجنوب إلا شرطة المرور والبلدية.
- في القانون الدولي لا يحق للمحتل رسم حدود الدول الواقع عليها الاحتلال.. نظام الرئيس السابق أعطى السعودية مساحة كبيرة من أرض الجنوب في اتفاقية ترسيم الحدود، وهو ما يراه كثيرون سر إصرار المملكة على عدم مساندة الانفصال، رغم مساندتها له عام94م، هل لكم رؤية حيال ذلك الأمر؟
= الأمر متعلق بالسيادة وسلامة الأراضي للدولة، ولا يمكن لشخص أن يقرر ذلك، وما تفضلت به أنت يشير بوضوح إلى أن المصالح الكبرى الإستراتيجية هي التي تحرك مسار سياسات الدول، ولهذا نحن ندعو دول الجوار بما فيها المملكة على وجه الخصوص إلى إعادة قراءة الواقع كما هو ونتطلع لحق شعبنا في الحرية والاستقلال، وسنرسي أفضل العلاقات مع دول الجوار العربي بما يؤمن مصالح الجنوب ودول الجوار.
- مؤتمرات ومهرجانات وخطب وقصائد شعرية.. هل لديكم غير ذلك، خارطة طريق مثلا، يمكن السير عليها لرؤية نهاية النفق للقضية الجنوبية؟
= ليس هناك نفق، هناك قضية شعب قاب قوسين أو أدنى من الانتصار والانعتاق من الاحتلال اليمني المتخلف الذي يلجأ إلى السلوك المعقول وغير المعقول، وينشر الفتن ويمارس الجريمة وخلط الأوراق والدس بين قيادات الجنوب لمنع القضية الجنوبية من الانتصار، وأدعو الجنوبيين إلى تفهم المواقف المختلفة، وأن يحافظوا على إيمانهم بالاستقلال واستعادة الهوية.
- أخيرا، أغلب قادة الحراك لهم عقود في السلطة، وبعضهم وزراء من بعد ثورة أكتوبر، والآن تعودون محاولين حكم الجنوب الجديد.. ألا ترى أن ذلك يتعارض مع فلسفة الربيع العربي والثورات الشبابية؟
= فلنتحدث بصراحة وشفافية، نحن القيادات الجنوبية نتحمل المسؤولية منذ قيام الوحدة إلى اليوم، وهذه القيادات على دراية كافية بقراءة التاريخ المعاصر، وتملك الجرأة والشجاعة للقيام بواجبها، وتصحيح الأخطاء الإستراتيجية الكبرى وتصويب المسار، وتحمل المسؤولية في تبصير النشء الجديد بحقائق الأمور والإسهام بإزالة الظلم والزيف والظلال، ومساعدته على استعادة هويته وبناء دولته المستقلة، والرئيس البيض صرح أكثر من مرة أنه سيسلم الراية إلى الشباب وإلى الجيل الجديد.
شكرا لك